خلال فترة دراستي في معهد الفنون، وتعاملي المتكرر -في فترة لاحقة- مع عدد من الفنانين والفنانات المتخصصين في مجالات التشكيل بالطين، تبين لي بأن غالبيتهم يستعمل نوع واحد من الطين، وهو الطين المستورد من أوروبا (إسبانيا وإيطاليا وألمانيا على وجه التحديد). وفي زيارة خاصة لمشغل الفنان ياسر العمري تبين أنه يعتمد بشكل أساسي في استعماله على طين من مصدر محلي تم استخراجه من قبل باحث وصديق له تساءل مِراراً عن وجود أي أنواع طين محلي قابل للاستعمال، خصوصا في مناطق كانت قد اشتهرت سابقا بصناعات يدوية عديدة ترتبط بالطين، وقد وجد فعلا -وبعد بحثه الطويل- كميات من الطين في كل من ملكا وأم قيس ومناطق أخرى تقع قرب نهر اليرموك
يتحدث العمري عن هذا الطين فيخبرنا: “إن الطين المحلي الذي استعمله حاليا يملك من الرطوبة والليونة ما يجعله سهل الاستعمال، وعلى درجة من الجاهزية للتشكيل والاستخدامات الفنية” ويضيف: ” من البديهي جدا وجود طين بهذه الخصائص في مناطق كالمذكورة وذلك بسبب رطوبة المنطقة ووقوعها قرب نهر اليرموك.”
وفي أول سؤال يتبادر للذهن.. هل يعلم الفنانين/ـات في الأردن عن وجود طين يتم استخراجه من أرضهم مباشرة قابل للاستعمال والتشكيل بسهولة ؟ لماذا لا يتم استعماله والتسويق له؟ ولماذا يُفضل طلبة الفنون والفنانين استعمال الطين المستورد عوضا عنه؟
عند طرح هذه الأسئلة بشكل مباشر على بعض طلبة الفنون والفنانين/ـات الناشئين/ـات كانت جميع الإجابات متشابهة حيث يحصل جميعهم على الطين المستورد من جهات قليلة محدودة، وأغلب طلبة الفنون لا يعلم مصدر هذا الطين من الأساس، فهو يعرف فقط بأن هذا النوع هو النوع الأكثر جودة والأفضل للاستخدام، ولم يسمع بتاتا عن وجود أي طين محلي يمكن استخدامه. أما بأخذ وجهة نظر بعض العاملات بجمعيات للحرف اليدوية فإن الطين المحلي -الذي قُمن بتجربته مسبقا- لا يملك من الجودة ما يكفي للاعتماد عليه، فلا يمكن حرقه وتلوينه وتزجيجه بسبب خشونة ملمسه
وبالعودة لتجربة الصديق ياسر العمري، فقد أكد على أن الجهل بطبيعة جودة الطين المحلي قد تكون فعلا السبب لعدم الاعتماد عليه، ولكنه يضيف لذلك نقطة أخرى تتعلق بالاستغلال التجاري والمصالح الفردية لدى بعض المستثمرين والتُجار، فيقول” إن أحد أصدقائي الذين توصلوا لصنف محلي ذو جودة عالية قد تعرض للاستغلال -بصورة مباشرة وغير مباشرة- لمجرد طرحه فكرة وجود طين محلي منافس للطين المستورد، وقد يقف وراء هذا الاستغلال أصحاب مشاريع تجارية لاستيراد الطين والتجارة به، وقد يضر تسويق الطين المحلي بمصالحهم التجارية، كما أنه قد يعطي الطين المحلي ميزات تنافسية أفضل من حيث الخامة نفسها والسعر ومن حيث كونه أكثر استدامة بجوانب عديدة.” ويضيف ياسر حول سوء الفهم للطين المحلي: “إن الناس تعطي صفة المحلي لنوع واحد من الأصناف المحلية، وهو الصنف الأبيض الخشن الذي ينتشر في صناعة الفخار التجاري الذي يُباع على الطرقات، وهو ليس سيء بطبيعة الحال ولكن لم تتم معالجته بالشكل المطلوب، مما يجعل استعماله يقتصر على هذا النوع من الفخار الذي لا يمكن تلوينه أو تعريضه للحرارة.”
وفي حديث مشابه مع أستاذي الفنان والخزاف يعقوب العتوم أكد على وجود طين محلي ذو جودة عالية في مناطق متعددة بالأردن، وأن هذا الطين يعطي بالفعل نتيجة جيدة جدا، وهي تختلف باختلاف المنطقة الجغرافية وخصوبتها وغيرها من العوامل. أما فيما يتعلق بأسباب عدم اعتماده وبيعه وتسويقه محليا يقول
باختصار لا يوجد مستثمرين جادين، وقد يطول الحديث في هذا الجانب، لكن يوجد بعض الأفراد الذين ينتجون طين محلي بنسب بسيطة لا تكفي لتوزيعها أو إنتاج خزف تقليدي كما هو الحال في المغرب أو في دول أخرى.” ويضيف: ” لتطوير الطين بالاردن علينا دراسة طبيعته وخصائصه الفنية والعلمية، ليتم إنتاج أنواع تتحمل درجات الحرارة العالية والمنخفضة على حد سواء. كما أن تحقيق أمر كهذا سيأخذ الكثير من الجهد الحقيقي في البحث والدراسة والمعالجة والاستثمار في الإنتاج والترويج بالشكل الصحيح -يعقوب العتوم
في النهاية فإن هذه المدونة ما هي إلا بوابة للتساؤل حول إمكانية اعتماد الطين المحلي كبديل ومادة أساسية لدى الفنانين/ـات المحليين/ـات ، خصوصا وأن الطين المحلي -والذي قمت بتجربته وأدعو المحترفين من النحاتين و الخزافين لتجربته- يمتلك من الخصائص ما قد يكفي لجعله منتج محلي ذو أهمية في المستقبل. كما أن هذه المدونة هي وسيلة لطرح تساؤلات إضافية حول الدور الذي قد تلعبه المصالح التجارية باحتمالية وجود تجاهل لمورد محلي مهم، ودفع المستهلكين والفنانين لاختيار موادهم بناءا على المصالح التجارية المتبادلة على حساب الجودة والأصالة ودعم الإنتاج المحلي